العقبة- "أغنية ضد الحرب" هو الديوان الخامس لحكمت النوايسة الشاعر العذب الخارج من اتون حروب التهمت أحلام الشعراء وحولتها الى وقود لها في هذه الأغنية الفجائعية، ان جاز التعبير، هي ليست ضد الحرب بالمطلق لكنها ضد الحرب التي لا ضوابط لها وتلتهم الأخضر واليابس والطفل والشيخ بلا هوادة أو رحمة وضد الحرب التي تبدو بلا معنى، لكنها في الوقت ذاته مع الحرب حين تكون دفاعا عن الأشياء الجميلة والتفاصيل الدقيقة للوطن حين ينادي وتبدأ صباياه يلوحن في الصباحات الباكرة يودعن الجنود الذاهبين الى القتال.
منذ مطلع هذه الأغنية، يمسك الشاعر بروح نصه ليوجه القارئ الى الآتي، الذي لا يراه الكثيرون، لكن زرقاء اليمامة التي استحضرها الشاعر واستلب دورها لنفسه، كانت تدرك ان الغابة التي تمشي ليست سوى جنود غزاة يلتفون بالشجر:
"أزف الرحيل
أشم رائحة القرنفل في يديك
أكاد ألمح غابة تمشي
نيازك مقبلات صوب نبعك".
هنا يبدو الخطاب في ظاهره موجها لـ"أنثى" من لحم ودم، لكن الشاعر يجزم بما لا يقبل الشك ان المعشوقة هذه المرة ليست "سمية" التي شغلت فضاءاته شعريا في كتاباته السابقة لكنها هذه المرة "سمية" الأسطورة التي تتجلى في صورة مدينة دمرها الغزاة ولم يبقَ منها سوى ذكريات الشاعر..
"ألملم الأشياء... أوراقي... وذكراك الحزينة والقصائد... والظلال الواقفات على النوافذ"، وتبرز هنا ملامح المدينة المغتالة ووجه المعشوقة القتيلة، إذ ان الظلال لا تقف على النوافذ الا في مدينة واحدة تختزن نوافذها حكاية تاريخها وهي ذاتها النوافذ المزينة "بالشناشيل" في بغداد قبل خرابها الأخير.
"الريح خبرت الجنوب بزهوها... وأنا خبرتك طفلة في ليلي القزحي اغنية ترود بي المسافات العتيقة... غيمة ترفو فضاء الرحلة العطشى".
يعود الشاعر هنا لينحاز مرة أخرى الى الجنوب حيث ملاعب الصبا والطفولة وقسوة الحياة الموجعة الموغلة في عبثيتها... انه الجنوب بكل قسوته ومكابرته حيث الطفولة التي لم تترعرع كأي طفولة أخرى.
"وسكنت في افق الخديعة غير مهتم بموتي كل يوم..." إذن هذه حكاية الشاعر إنها الحياة على ذمة الموت أو انها الحياة التي تحتضن في جوفها النهاية يمر بها العابرون غير عابئين وليس في الأفق سوى صدى المواجع، إذ تلفح في وهج الظهيرة جسد الفتى الجنوبي الموغل في عناده وفي رحلة البحث عن عالم بلا حرب وعن مجتمع أكثر عدالة... وإذ تكبر نقمة الشاعر على ما آل إليه المآل ينده بلحن جنائزي.
"أشتهي وطنا قديما كنت أدمنت الرحيل إليه.... الى أن يقول.. وابني موطنا عشا هلاميا... بلا فقر.. بلا فقد.. بلا حزن... بلا.. وأطير اعزف موطنا نفسي... وانسل من غيوم الله قمصانا واخلعها عليك لتبصري... هنا يستحضر الشاعر قصة سيدنا "يوسف" عليه السلام وقميصه لكنه ينسج قميصه الجديد من غيوم السماء ليلقيها على وجه معشوقته المدينة التي ربما أصيبت بالعمى فما عادت تفرق بين العدو والصديق.. هذه المدينة الضائعة دماؤها بين القبائل هل يكفي قميص الشاعر وحده ليعيد لها الأبصار أم أن قمصان العالم اجمع لن تنجح في إعادة ما هتك من سترها وما استباح من حرمها الغزاة".
لقد استحضرت أغنية "حكمت" ضد الحرب تاريخا بكامله وسطرت لمدينة كانت تنام على الغيوم فاستبدل الغزاة غيومها ببارودهم ليختلط بالدم والجرح النازف وليختلط الوجع العام بالوجع الخاص ولتصبح "سمية" كالمدينة النازفة أطرافها وقلبها والمفتوح مستقبلها على أكثر من احتمال، لكن الاحتمال الاوجع والأكبر هو أن لا تعود تلك الغافية وأن تظل مرتعا للغزاة ليطير الحمام من ساحة التحرير ولا يعود الى الأبد وليظل الشاعر مسكونا بوهم العودة على الرغم من نصيحة الدكتور له بأن ينبذ الإيقاع ويأخذ قسطا من النثر الذي لا ينتمي إلا للعبث والضياع .
(بترا)