محمد عضو متميز
عدد الرسائل : 111 تاريخ التسجيل : 27/02/2007
| موضوع: وقفة عند الحارث بن عمير السبت مايو 09, 2009 3:17 pm | |
| وقفة عند الحارث بن عمير
نص نايف النوايسة
ما الذي جعلني التفت الى الشمال وارى اليرموك ومهاميز خليل العرب المسلمين على شرفة الواقوصة؟ انها تلك الوقفة العميقة بين يدي الحارث بن عمير ذات ضحى, وبرفقة صحب من العرب والاجانب.
كنا خلعنا وراءنا رحلة الكرك ورحلة البحر الميت ويممنا النفس صوب الشراه, ومعظم الذين معي لا يعرفون من الشراه الا شذرات واذا عرفوها فبالكاد يحددون موقعها على الارض..
انطلقنا من جامعة مؤتة وهاجسنا وقفات على كتف وادي فلقا وذرى الطفيلة وقراءة التاريخ الباهر عند مرقد الحارث بن عمير ومد النظر عبر جبل العلمة الى الافاق الفلسطينية المتوارية وراء الضباب الشفيف, والالتفات يمينا وشمالا الى قلعة الشوبك وجبل التحكيم بأذرح, ثم الانتهاء الى البتراء.. حينما انفلتنا من المزار جنوبا واحتوانا وادي فلقا بسحره الربيعي , اشفقت على القوم معي من روعة المشهد فقلت لهم: رويدكم فأنتم على العدوة الاولى من نهر الدهشة.. اكتموا انفاسكم حتى ترون ضفاف النهر كله.. كانوا مأخوذين بما يشاهدون وكأن هذا الصباح تجلى لهم بروعته وجماله الندي.. كانوا يكتبون ويصفرون ويصفقون. اخترقنا الطفيلة بشارعها الطويل وعفوية اهلها وطيبتهم وتلويحهم للقادم ايّا كان.. الطفيلة التي تواجهك من منحدر العيص لوحة زيتونية لا يوفيها حقها الا الصمت, فالجمال العلوي فوق الرسم والكلمات, انه مناجاة للروح ولا يستقر الا في الوجدان, وعند ضريح الحارث بن عمير الازدي اخلع انتسابي لنفسي وألبس عظمة هذا الصحابي واحلق مع روحه الحائمة فأرى اليرموك والقدس وبغداد وعقبة بن نافع ومحمد بن القاسم وطارق بن زياد, والتزم الصمت.. ولكن نداءا خفيا من فضاء الضريح يوقظني فانتبه.. لا شك انها روح الحارث لا تدع الواقفين بين يديه يلوذون وراء صمتهم.. ورحت بعيدا في فضاء اللحظة:
ما الذي جاء بهذا الرجل هنا ؟ غريبا الا من سيفه وايمانه؟ يا لعظمة هؤلاء الرواد! انهم صنعوا لنا تاريخا نعود اليه كما داهمتنا الظلمة فنجد بهم القناديل التي تضيء الطريق فنمضي!
كان القوم ينادون.. اقصد رفاقي في الحافلة.. فمضيت معهم صامتا في مرحلة من الطريق ثم رحت اعاين الافاق والهضاب التي تحفنا من هنا وهناك, ولا يليق بنا نسج المشهد على كف القصيدة او بين يدي التشكيل دون ضانا.. وقفنا على احد المطلات العالية فرأينا عين لحظة والتواشيح الجميلة على صدر ضانا الرائع, وكادت الوقفة تطول من جمال المنظر وروعته.. وظن البعض ان لا جمال يفوق ما تشكل للتو امامهم.. لكن اغراءاتي لهم بما ينتظرهم من سحر والحاحي الملحوظ بمباشرة المسير قطع عليهم هذه الوقفة ومضينا سراعا الى البتراء..
ما بين ضانا ووادي موسى مسافة مسكونة بالجمال الهادئ الذي يوحي لصاحب الرؤيا بألف حالة من اشكال الابداع.. قد يعبر عنها, وفي الغالب يختزنها حتى يخلو لنفسه ويستعيد ما رأى. عند "الجي" يبرز من و راء الافق قبر هارون على سن جبلي وردي عال.. فيدرك المتشوف ان البتراء قريبة.. وتفاجئك بلدة وادي موسى بطلتها الربيعية الطرية مثل سيدة سلطية لبست "خلقتها" واعتمرت حطتها.. ونادتك بالحاح لشرب كأس ماء من العين القريبة.. لكن الطريق الهابط يأخذك بسرعة الى السيق.
وما ادراك ما السيق؟ البتراء عالم تجلى فيه الابداع, حتى تظن ان الفن كله هو فن نبطي, وقف الوفد متبلما امام هذه المنحوتة الصخرية.. حائرا مشدوها, يلثغ بكلمات, لكنه يدرك قصورها عن التعبير الحقيقي.. توليت الشرح لهم معتقدا انني من بقايا الانباط, فقد ادمنت زيارة المنطقة حتى خلت ان احد الحوارث او العبادات سيبرز من شقوق المكان او ان شقيلة واختها جميلة ستأتيان لي مع حوشب من احدى المغارات.
قلت لهم الكثير عن هندسة السيق وقنوات الماء والنواويس والنقوش والمسلات والخزنة والمحكمة والمدرج.. وشارع الاعمدة.. كانوا مأخوذين وما دروا انهم قطعوا آلاف الامتار دون ان يحسوا بها ولولا تربص الحافلات لهم عند جسر الصياغ لمضوا الى اسفل الوادي.
عدنا ادراجنا الى جامعة مؤتة, وكانت بعض الطيور تنتظرنا قرب قرية محي فقلت في نفسي هذا نهار جميل بدأناه محلقين الى اقصى الجنوب وختمناه محلقين على اجنحة هذه الطيور الوافدة الى ضريح جعفر الطيار.. عدنا الى مؤتة وفي النفس من الذكريات ما تستحق التدوين. | |
|