محمد عضو متميز
عدد الرسائل : 111 تاريخ التسجيل : 27/02/2007
| موضوع: ذات الودع* ـــ نايف النوايسة الجمعة أبريل 17, 2009 2:43 pm | |
| ذات الودع* ـــ نايف النوايسة
أمسى الشارع كله زمناً متراكماً، داكناً بالساعات المطرودة بالثواني، والتهم الظل الزاحف مساحات الرؤيا، ولاذت الزوايا وراء العيون. ماكان متوقعاً دُفن في قاع الذاكرة ووحّد الانتظارُ في أعماق الصمت العزفَ على قيثارة العيون الرامشة وأسلس في ناظم الرغبة الرؤوسَ النائسة.... أم الودع طوفان مباغت اخترق الآفاق ووطّن العري، وأشعل فضائحه في النفس... الدمْ يحلّق فوق القلب، وأنا للتوِّ أُبعد عيني عن (يام)** الذي ولّى هارباً حين رفعته ذاتْ الودع قلاعَها.. جرّه الوادي بعيداً.. قهقهاته تملأ الشِعاب...
*****
-1-
تنفتح الزوايا وتتباعد لتصبّ في العيون أمَّ الودع... قامة رشيقة وساقان مسكوبتان تنهضان بأعباء جسم ممتلئ، يفضحُ تفاصيله فستان رقيق.. تنغرز النظرات على الجسم المتثني وتنساح مع الطوايا وتندس بين الثنايا والأكمات، ولكنها ترتد خاسئة حين تزحف إلى الوجه الذي غطّاه خمار أسود فتستقر فوق ودعات ملّونة متدلية من عنق مخفٍ...
-2-
تهتز ذات الودع وهي تفتح ذراعيها للأزواج الداخلية وربّانها ينادي: (يابني اركب معنا ولاتكن من الكافرين)، و(يام) تغرّه نفسه ويهزّ كتفيه رافضاً ويقول: (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء).. تهتز ذات الودع ويئن سكانها وتتلازم دسرها، ويصرخ (يام): إني كسرت السكّان وأحرقت القلاع فما الذي جرى؟ ضحك كثيرٌ من المغفلين الذين رفضوا الدخول في حضن ذات الودع.. يعتدل السكان ويشمخ بأنفه، وتتطاوح القلوع فتهب الريح وتنتفض الأرض وتجاوبها السماء بِقَربٍ منهمرة.. ترتفع ذات الودع فوق اليم.. (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا)، يحزن الربّان العظيم وينادي (يام) الذي يغالب الموج (لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رحم).. يسمح النداء ولايُرى منه إلاّ الإعراض.. تحن ذات الودع من ثقل السنين والمهمة الصعبة وتستجيب لسائق الطوفان... وتبدأ الرحلة.
-3-
قام الجمع وتبعوا عيونهم المتلصصة.. يركضون من زاوية إلى زاوية وأم الودع لا تعيرهم انتباهاً.. تشق طريقها مع رفيقتها بكل عنفوان... كانوا عشرة.. خمسة عشر.. إنهم يتكاثرون.. تركوا وجوههم ودماءهم وحياءهم وتجرجروا وراء أم الودع التي كانت كوشوش رفيقتها وتفيض عليها بالكلام.. العيون تؤَوِّل كل شيء تحت سقف الشهوة اللاهبة...
-ماذا وراء القناع ياترى؟
-أنا معجب بالساقين، ومافوقهما زيادة.
-خير الأمور أوسطها.
يحاول عجوز أعرج أن ينطق بشيء فتنزلق قدمه ويتكوّر في الشارع مثل عنكبوت يحتضر.. تتجاوزه الكتل الطينية دون اهتمام.
تدخل أم الودع ورفيقتها أحد المنازل وتغلقان الباب..
-ماذا وراء الباب ياترى؟
-ستخرجان ولو بعد حين.
-نحن هنا حتى الأبد.
تقع نظارة أحدهم فتتهشم إحدى العدسات فتبدو خلقته مثل سمكة قبيحة الوجه.. يبصق.. لكنه يأخذ مكانه عند الباب... العيون معلّقة بين المصراعين...
-4-
الراكضون وراء ذات الودع لايحصون.. مغفلون، لاهون، مجرمون.. شدّهم مشهد السفينة التي أقلعت بعد سنين من السخرية والتغوّط والانتظار.. اليم يطوّقهم فتقفز قلوبهم إلى الحناجر..
-قلت لكم لاتسخروا مني، ولاتقطعوا الودعات التي أطوّق بها سكّان السفينة... فسخرتم.
-قلت لكم ساعدوني في بناء السفينة إنها لكم، ستحملكم في مثل هذا الموقف العظيم.. فأبيتم...
-(إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون)
-وعزرتم بابني..
وينادي الربّان العظيم ابنه فتجاوبه الأمواج: دعْه إنه عمل غير صالح، ويؤكد الابن: أنا في واد وأنت في واد.. (وحال بينهما الموج فكان من المغرقين)..
الطوفان يعلو ويعلو، والراكضون ينسلون وراء ذات الودع من كل حدب وصوب.. (يام) يختفي عن العيون -والربّان العظيم يملأ ذات الودع بالدموع. والطوفان والأيام تترى، والآفاق تغيب تماماً.. كون جديد يولد بعين الرحمة... وأحلام البداية تراود الأزواج فوق اليم الغاضب.
-5-
ينفتح المصراعان ويتلقف الشارع أم الودع سافرة.. تهجم إليها العيون.. تحاصر وجهها... تتفرسه.. عيناها، وجنتاها، عنقها المزين بالودعات، وتستقر فوق أنفها!!
-أين أنفها؟
-إنها من غير أنف.
-ياخسارة.
تنفك النظرات العالقة بالساقين والردفين والأكمات والثنايا وترحل إلى فتحتي الأنف -حالة من الضحك الهستيري تملأ الشارع.. تحاول أم الودع تغطية وجهها... خمارها سقط وراء المصراعين المصطكين.. تهرب وهي تتلمس مايحفظ لها كرامتها.. ترفع ثوبها وتغطي وجهها.. تندس النظرات تحت القناع.. أم الودع أنف مجدوع فقط... تواصل الهرب... والراكضون خلفها يعربدون ساخرين.. طوفان الغضب يحملها فوق الشوارع.. فتنادي:
-يارب
القهقهة تسدّ الأفق أمام أم الودع، تنظر إلى أبعد من أنفها المجدوع.. تعانق السماء:
-يارب (لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رحم).
تحمل حجراً فيأخذ الراكضون بالعواء.. تشدخ رأس كبيرهم، فيعوي ثم يتهاوى إلى الأرض.. تطفو الجيف حول أم الودع وتقوم لتواصل رحلتها مع القدر...
-6-
الكون كرة من الماء وذات الودع تتهادى مثل أميرة، والراكضون على سطح الماء ماكانوا إلا جيفاً منهوشة.... الجودي يقترب، وقِرَب الماء تتطاير مع الريح... تنكشف الآفاق... وتظهر السماء، وينفتح الزمان من جديد لذات الودع.. هي فوق الأرض، وينهض من فيها لرحلة جديدة.
*****
فوق الزمان أنف مجدوع وسكان سفينة منخور... حارس أمين يتحدى، ورميم ذات الودع فوق الجودي يسخر من الكلاب اللاهثة.. الطوفان يأتي بعد حين.. وكل مافي الأرض يموت... أم الودع لاترى إلاّ الجودي.
والجودي الشامخ يطوّح بالراكضين وراء عريهم اللاهت.. ويرنو للسماء متصدعاً.. و(يام) مازلتُ أراه يغالب الموج حتى آخر الزمان.
*ذات الودع: سفينة نوح (اللسان/ ودع)
** يام: ابن نوح الذي رفض الدخول في السفينة (اللسان/يوم).
| |
|