الشاعر حكمت النوايسة
إصلاح العالم لا يكون بالشعر ولا بالفنون بل عبر انكسار القوى التي تصنع الطواغيت
يعد الشاعر حكمت النوايسة واحد من أبرز الشعراء الذين ظهروا في فترة التسعينيات في الأردن ،وامتازوا بصوتهم الخاص ، وقد بدا واضحا أن تجربة النوايسة بتعددية ما يكتب ما بين الشعر والنثر البحث قد انحازت إلى التعبير عن هواجس الانسان العربي ورسالته الحضارية مستندا على تاريخه الغني وإرثه البارز الذي يؤشر على دور مغاير في المستقبل الإنساني رغم قطعان الليل التي تطغى على النور بين الحين والآخر ، و في المحصلة فإن نتاجات النوايسة الشعرية والنثرية نالت التقدير والإحترام من الحركة الثقافية المحلية ، ولم تصل كما ينبغي بعد إلى العالم العربي بسبب سوء التوزيع والمركزية القاهرة ،والنوايسة المولود في قرية مؤتة جنوب الأردن عام 1964 حاصل على شهادتي البكالوريس في الجغرافيا من جامعة بغداد 1987 ، والبكالوريس في الأدب العربي من جامعة مؤتة 1996 ، وهو يتابع دراساته العليا في النقد الأدبي في الجامعة الأردنية ، و في مجال الإنتاج الشعري أصدر : عزف على أوتار خارجية 1994 ، الصعود إلى مؤتة 1996 ، شجر الأربعين 2000 ، كأنني السراب 2002 ، أغنية ضدّ الحرب 2005 ، كما أصدر في النقد :المآل: دراسة تأويلية في القصة القصيرة 2000 , وفي المسرح " بائع الأقنعة" ، وهو عضو في رابطة الكتاب الأردنيين وعدد من المؤسسات الثقافية المحلية ، وقد عمل في التعليم وهو اليوم مدير تحرير مجلة أفكار الثقافية الشهرية التي تصدرها وزارة الثقافة الأردنية .
كما أنه فاز مؤخرا بجائزة عبدالرحيم عمر للشعر التي تمنحها رابطة الكتاب الأردنيين ، وهنا حوار حول ديوانه الأخير " أغنية ضد الحرب " وانشغالاته الإبداعية والثقافية :
لنبدأ من ديوانك الأخير " أغنية ضد الحرب " حيث لاحظت أن القصيدة الأساسية تحمل ثلاثة أسماء وكأنك في حيرة من أمرك ثم أن القصيدة طويلة وملحمية تم قمعها مبكرا فما رأيك ؟
العنوان عتبة أساس في النص الأدبي،وقد كنت في حيرة من أمري في تسمية القصيدة ، هي أغنية ضد الحرب،لكنّها تحمل في نسيجها ما يشبه القيامة، القيامة التي قامت ولم تقعد على العرب،مسلمين كانوا أم غير مسلمين، وهذه القيامة سميتها الفجاءة،وهي فجاءة رمل،زوبعة رمل ، أو أشبه ما تكون بزوبعة رمل،هذا الرمل الذي تحرّك بهذه الصورة التي لم تعهدها الصحراء العربية بأي مناخ سابق ، وعندما تحرّك دمل وغطى كثيرا من الأشجار التي كنّا نتوسم فيها الموسم القادم ، لكنّ تلك الحركة كشفت أشجارا كانت خبيئة تحت الرمال،وهي الأثلات التي يمكن أن تشكل أشجار الموسم القادم، هو أمل وهي أغنية،وقد أخذت المقترح الأول للعنوان وسمّيت الديوان به " أغنية ضد الحرب" وأبقيت حيرتي كما هي ليشاركني القارئ في تلك الحيرة،وللقارئ
الحق في أن يكون شريكا في اختيار العنوان،وله الحق في تغيير العنوان إن أراد،لأن العنوان غالبا ما يكون رؤيا قراءة وليس رؤيا كتابة،أنا كتبت القصيدة بلا عنوان،وعندما أردت أن أسمّيها وجدتني بحاجة إلى كتابة قصيدة ثانية، أو بحاجة إلى قراءة القصيدة قراءات متعدّدة، ولو فعلت ذلك لكنت صادرت حق القارئ في الاشتراك في إنتاج النص، هذا النص تحديدا،لأن بناء النص يحمل مثل تلك الحيرة، وكذلك نسيجه،إذ إنني تركت كثيرا من الجمل في القصيدة مفتوحة ، واستثمرت شعريّتي الانقطاع والغموض بأقصى طاقاتها،ولم يكن ذلك لعبا، أو ضربات محترف، وإن كنت كذلك، وإنما كان انسحابا من اليقينية التي تمارسها الكتابة العربية،وانسحابا من القوانين المزيفة التي أنتجت الحرية المزيفة التي نعيشها،بحثا عن القوانين الحقيقية للوجود لكي نمارس الحرية الحقيقية بمعرفتها .
أما كون القصيدة ملحمة تم قمعها ، فإنني أشاركك في أن فيها نفسا ملحميا،ولا أدعي أنها ملحمة،غير أنني لم أقمعها ، ولو أردت أن أضيف إليها شيئا،أو أعاودها لما استطعت ذلك،وهكذا تجربتي الشعرية كلها ، أنا لا أبدأ بكتابة نص لم يكن ناضجا في ذهني،ولم يسبق لي أن راجعت قصيدة وأضفت عليها أو نقصت منها، هكذا أسلمها للنشر كما خرجت إلى الورق أول مرّة.
في الديوان نفسه لاحظت أيضا قصائد عمودية وأخرى من جنس التفعيلة فلماذا لم تستقر على شكل واحد ولم هذا التحاور بين الشكلين ؟
أنا ذلك التجاور الغريب بين الأشكال،قصيدة النثر ، والتفعيلة والقصيدة العمودية،لأنّني أعيشه في نفسي، ولم أستطع أن أقنع هذه النفس بلا جدوى الشعر العمودي، كما لم أستطع أن أبعدها عن تذوّق قصيدة النثر إلى الحد الذي يجعلني أضمّن كل ديوان من دواويني بواحدة على الأقل، كما أن سحر قصيدة التفعيلة لم يمّحي من فهمي للعالم،العالم الذي أرى فيها العموديين مع الموسيقيين مع النثريين المتمرّدين، وأنا في هذه الإجابة لست أكثر معرفة من السائل، غير أنني أحاول أن أجيب،والحقيقة الحقيقة هناك ، في مكان لا أعرفه؛ إذ إنّني لا أعرف لم تأتي القصيدة عندي عمودية، أو تفعيلة أو قصيدة نثر!!، وعندما أبدأ الكتابة لا يكون في ذهني من الشكل إلا كلمة أو كلمتان.
دعنا نمر على السردية الواضحة في قصائدك منذ ديوانك الأول إلى الخامس ، وكأنك مشروع سارد مؤجل ذهب إلى الشعر وبقي هناك ألا ترى أنه ينبغي تخليص القصيدة من مثل هذا السرد ؟
لا أعلم عن أي قصيدة تتحدّث، وكيف يمكن أن تتخلص القصيدة من السرد،إذا كنت تعني القصيدة على وجه العموم فإنني أرى أن القوانين المسبقة ممكن التنظير بها ، غير أن الأمر في إنتاج النصوص مختلف ، إذ إن لكل نص ظرفه الخاص، والسرد الذي تعنيه هو وجود راو، وحدث ، وزمن ومكان، في القصيدة،أرى أنه ضرورة بنائية فيها،ذلك أن القصيدة التي تعنيها وهي أغنيه ضد الحرب ،وقبلها الصعود إلى مؤتة ، وبعد هذه وقبل تلك ( في رثاء البحر الكامل) هذه قصائد ذات بنية درامية خاصة وهي بلا السرد لا شيء،بمعنى أن السرد جزء بنائي، فهي ليست قصائد الراوي الواحد ،ولا قصائد الرؤية الواحدة،ولو أنعمت النظر في "أغنية ضد الحرب" لرأيت فيها الأصدقاء والأعداء،لأن الضمير المحوري فيها هو ليس (حكمت النوايسة) بأي شكل من الأشكال، وإن تسللت إليه ذاكرة حكمت و محمولاتها الطفولية والمعرفية،فالأنا في مقطع " حارت بي الدنيا" هو الأمة، الأمة التي علّمت الأرض كيف تكون أرضا، الأمة التي حملت النور إلى العالم عندما كان في دياجير التخلف، الأمة التي أبدعت أول نص قانون في العالم ، وأبدعت أول ساعة ، وأبدعت أول موسيقار، وأول "نوته" موسيقية مدوّنة على حجر، وأبدعت أول مدوّنة لوحدة الوجود، وأبدعت أول تشريع وضع الإنسان في مكانه اللائق … ولا يمكن أن يكون ذلك الضمير أنا، وفي مقطع الطاغية الذي جاء بضمير الهو… هو الآخر ، الآخر فينا والآخر في الآخر، هو نقيض الحياة، ونقيض الإنسانية سواء أكان ينتمي نسبا للأمة العربية أم لغيرها ، إذ ليس للأمة عداء حقيقي مع الغرب كونه غربا ، وليس لها شرف وجودها كونها شرقية،وإنما الأمر في اقترابها واقتراب الآخر من قيم العدل والحضارة والمدنية.
قصيده هذه مشاغلها لا بد لها أن تكون مشبعة بما هو حق للنثر الذي تسمّيه سردا،ثم إن القصيدة في تطوّراتها الأخيرة عالميا أصبحت أشبه ما تكون بقطعة سرديّة، ولنا في قصيدة (الكتلة) خير مثال،ذلك أن ما يفصلها عن النثر القصصي هو لا زمنيتها وحسب، وهي بتعريف بسيط ( نص قصصي لا زمني).
بالمناسبة لو أردت أن تصدر تقييما صارما على تجربتك في الدواوين الخمسة وتموقعها عربيا ومحليا في سياق التجربة الشعرية فما الذي تخرج به ؟
التقييم هو من حق النقاد،ولا أريد أن أخوض في هذا الثبج،ذلك أنني يمكن أن أتواضع فأظلم نفسي ،ويمكن أن ( أتنرجس ) فأظلم نفسي أيضا، وكل ما أقوله الآن في هذا الصدد، هو أنني راض عن كثير من القصائد التي كتبتها ، ولست براض عن قصائد عديدة، أما تجربتي بوجه عام ، فإنني أرى أنها تجربة مهمّة لي ، حققت فيها كثيرا من التطوير على أدواتي، واستطعت أن أعمّقها بما أحاكم به نصوصي بعد أن تخرج إلى النور. أما مكاني عربيا فأنت أعلم بالحال، إذ إن قوانين النشر والانتشار عندنا هي قوانين غير إبداعية ،وإنما تخضع لما هو خارج الإبداع تماما، وكيف لشاعر من الأردن أن يكون شاعرا عربيا وهو لم ينشر من شعره خارج الأردن، ولم يتح له المشاركة في أي مهرجان عربي، أنا غادرت الأردن ثلاث أو أربع مرات بعد الانفراج الديمقراطي،أما الكتب التي نشرتها فإن الكتاب الوحيد الذي كان يمكن أن يوزع عربيا هو ( كأنني السراب) لأنه صدر عن المؤسسة العربية ، غير أن هذا الكتاب لم يغادر الأردن،وهو بالحفظ والصون كما يبدو بانتظار أن أشتري أنا ما تبقى من نسخه.
بصراحة أيضا ما الهاجس الذي يدفعك لكتابة قصدية ما…الرغبة في إصلاح العالم الذي اهترأ أم من أجل شيء غامض وقصي في أعماقك ؟
لا يمكن للقصيدة أن تصلح العالم ، وإنما لها أن تجعل الوجود أجمل، أو أكثر قبولا، والكتابة غير قول القصيدة، فالقول المتعارف عليه عند العرب هو أن يمر الإنسان بحدث أو ظرف فيقول قصيدة، أما الكتابة فإنها أمر آخر؛ إذ إنها استجابة لنداء خفي في الأعماق، وهي عرض الموقف الدائم أمام الوجود الدائم، تمتلك استمراريتها من كون الإنسان المبدع لا يعيش لحظتين متماثلتين، أما العالم المقصود إصلاحه فإن إصلاحه لا يكون بالشعر، ولا بغيره من الفنون، وإنما بقوّة تكون أقوى من القوّة المتجبّرة التي جعلته مزرعة بطاطا، لا يصلح العالم إلا بانكسار تلك القوى الشيطانية التي تصنع الطواغيت لتقتلهم وتقتل معهم الملايين.
لاحظت أنك انشغلت أيضا بالنقد وأصدرت كتابا فيه ،وفي المسرح والنصوص المكانية إضافة إلى المقالات الصحفية فهل ترى هذا التنوع مفيدا ام مشتتا للإبداع وصاحبه ؟
كنت دائما مشغولا بالنقد، والكتاب الذي أصدرته هو جزء من عدّة كتب مخطوطة لدي في السرد ، وفي الشعر، غير أن الظروف هي التي تحول دون صدورها،وهي ظروف خاصة ، وليس لأحد ذنب فيها. أما كون التنوع ( المسرح ، والمقال الصحفي ، والنقد، ونصوص المكان) مشتتا فإنني أرى غير ذلك لأن لكل عمل ظروفه الخاصة،مع أن الشعر لا يقبل أن يشاركه في المبدع شيء،هذه حقيقة، لكن وجوده لا يعنى أن الشاعر إذا كتب نصا ، أو مارس كتابة وقراءة نقدية قد يضعف ذلك شاعريته ، إلا إذا كانت القصيدة مشترِكة في زمن تشكّلها مع نص أو عمل إبداعي أو كتابي آخر. القصيدة في ذلك مثل القصة ، ومثل الرواية ، تريد تفرّغا تامّا لها ، تفرغا في الذهن ، وفي توجيه العاطفة ،وليأخذ كل نتاج مساحته الزمنية الخاصّة، وطاقاته الانفعالية التي يحتاجها. هكذا يكون المبدع متفرغا للشعر، ومتفرغا للنثر.
التنوع في الكتابة يثري الكتابة إذا عرف المبدع الوقت المناسب لكل جنس، ومنح ذلك الوقت انفعاله كاملا.
بصراحة هل تشكو مثل بقية الأدباء الأردنيين من النقد والنقاد أم تم إنصاف تجربتك وأخذت حقها من التقييم والتقديم ؟
أنا أفرّق بين النقد والإشهار، وكثير من الشكوى التي نسمعها من الشعراء هي شكوى من عدم الشهرة،وليس شكوى من النقد والنقاد في حقيقتها، أنا لا أشكو من النقاد، لأنني لا أكتب لهم،ولا أشكو من قلة الشهرة لأنني لست من طلابها، ومع ذلك حظيت تجربتي باهتمام نقدي لا بأس به،وكتبت فيها الكثير من الدراسات المتعمّقة التي نشرت في الصحف والمجلات والدراسات الجامعية المحكمة، وخير مثال ديواني الأخير ( أغنية ضد الحرب) لم يمض على صدوره ستّة أشهر ،ومع ذلك كتب عنها حوالي خمس دراسات معمّقة ، فضلا عن المراجعات الصحفية المختلفة،وأما الشهرة،فإنني في الأردن معروف،والمنابر الثقافية كلها متاحة لي وكل ما أكتبه يجد طريقه للنشر،
الآن أنت مدير تحرير لمجلة أفكار الثقافية الشهرية .. هل لك بمقاربة هذه التجربة وما مدى انعكاسها الحقيقي على الساحة الثقافية في الأردن ؟
مجلة أفكار أفضل مجلّة ثقافية في الأردن، وتأخذ على عاتقها رعاية الإبداع ، وبناء جسر من التواصل بين المبدعين،و فتح فضاء الكتابة على التيارات الثقافية والنقدية في العالم، أما ماذا تقدم للساحة الثقافية في الأردن ، فإنني أرى أنها تقدم الكثير، بأبوابها المختلفة، والملفات التي تطرحها، سواء أكانت ملفات الشخصيات الأدبية أم الملفات النقدية المتخصصة، ويشارك فيها نخبة من الكتاب من الأردن ومن الوطن العربي،ولعل أهم ما يميّز مجلة أفكار هو استقلاليتها،فبالرغم من كونها تصدر عن وزارة الثقافة إلا أنها مستقلّة في توجهاتها ، وليس لأي تيار سياسي عليها أي سلطة، فلا هي مجلّة الحكومة ، ولا هي مجلة التيار الفلاني ، إنها مجلّة الوطن بكل ما تعني الكلمة ،والحريّة فيها لا سقف لها،وهي على هذا تجربة ناجحة لأنها استطاعت أن تكون مجلة الجميع دون تحيز أو انحياز لأي فئة. ترأس تحريرها ماركسيون ، وقوميون ، وإسلاميون، وبقيت كما هي محافظة على هذه الاستقلالية النادرة في زمننا العربي
أخيرا ماذا عن منحك جائزة عبدالرحيم عمر الشعرية في الأردن كيف تراها وهل ينغي إعادة النظر بالجوائز التي تمنحها رابطة الكتاب الأردنيين برأيك شكلا ومضمونا ؟
أنا أشعر بالسعادة الغامرة على هذه الجائزة،رغم كوني لم أطلب الجائزة ، ولم أرشح نفسي لها،وهذا منبع السعادة فيها،صحيح أن قيمتها الماديّة قليلة،إلا أنني شعرت أنها جائزة حقيقية عندما عرفت أن المتقدمين إليها شعراء حقيقيون وكلهم يحظى لدي بالاحترام والإعجاب، وعندما عرفت أيضا أن لجنة التحكيم فيها من خيرة الأساتذة والنقاد في الأردن،وفوزي فيها يعني فوز القصيدة التي أكتبها، وهي جائزة بريئة بكل الأحوال،وليست كبقية الجوائز العربية ذات المبالغ الكبرى التي يحكمها كل شيء إلا الإبداع والنزاهة.
نشر الحوارفي ( القدس العربي) بتاريخ 21-11-2006